في معنى "التجديد" الديني
يخلط البعض بين مفهوم "التجديد" الإسلامي الذي ظهر في منتصف الستينيات وبين مفهوم "التجديد الذي كان شعاراً للعلمانيين الحداثيين في عشرينيات القرن الماضي في مصر". الذي رفعته ثلة من الأدباء والأساتذة المصريين (بعضهم من تلاميذ الشيخ الإمام محمد عبده) ودعت تحت مظلته إلى "تغريب العقل المصري" تحديث العقل المصري، وكان هؤلاء قد بَدؤوا بالدعوة إلى "الاحتفاظ فقط بالعقيدة الإسلامية" غير أنهم ما لبثوا أن انتهوا إلى القطيعة مع الدين! "الإصلاحية الإسلامية" التي كانت تمثل مدرسة محمد عبده تفرعت عنها مدرستان، الأولى اتجهت نحو الحداثة والعلمانية بمعناها الفلسفي والديني وليس السياسي فحسب، والثانية نحو السلفية بعدما رأت تحلل إصلاحية محمد عبده، وأدى ظهور عدد من تلامذته الحداثويين، ثم سقوط الخلافة العثمانية التي مثّل سقوطها الرمزي سقوطاً مدوياً في أعماق الذات المسلمة، ما تزال - إلى هذه اللحظة - تعاني منه. في تلك الفترة أوشك أن يصبح هذا المصطلح منسياً، في الوقت نفسه فقد شعار "الإصلاح" الديني الذي يمثل شعار مدرسة محمد عبده بريقه، فيما تزايدت في الوقت نفسه حدّة التحديات، فقد ظهر المد القومي وحكوماته الدكتاتورية، وترافق ذلك مع ظهور الشيوعية في العالم العربي بشكل موجة عقائدية عاتية، ووقع الشارع العربي والإسلامي تحت وطأة إحساس عميق بالهزيمة بعد ضياع فلسطين وسقوطها في أيدي الاحتلال، وبذلك أصبح الفكر الإسلامي بحاجة إلى "شعار" يستنفر فيه الوعي الديني، ويطلقه لمواجهة هذه الظروف الصعبة، مما مهّد لظهور شعار "التجديد" الذي عثر عليه في تلك اللحظة الحاسمة بما يشبه الاكتشاف، وتم تبنيه فجأة وبشدّة. ولهذا، فإننا نجزم أن شعار "التجديد" لم يكن مجرد استنباط من النص النبوي، واستعارة منه، بل كان النص النبوي يحضر لإثبات مشروعيته لا العكس، وهذه الحقيقة يجب ألا تجعلنا ننظر إلى المصطلح بعين الريبة؛ لأنه - في النتيجة- أصبح محكوماً بالنص، ما دام ينتسب إليه. إذا كنا لا نستطيع أن نحدد بدقة اللحظة التاريخية التي ولد فيها مصطلح التجديد الإسلامي، فإنه يمكننا مقاربته في الحقبة الزمنية الممتدة بين منتصف الخمسينيات وأوائل الستينيات، وذلك بالرغم من ظهور مقال للشيخ أمين الخولي (الأستاذ في كلية الآداب في جامعة القاهرة) عام 1933م في مجلة الرسالة (عدد 13) تحت عنوان "التجديد في الدين" وهو أول مقال نعثر عليه في هذا الموضوع، ثم كتب المودودي سنة 1948م كتابه باللغة الأوردية "موجز تجديد الدين وإحيائه" ذلك لأنه حتى منتصف الخمسينيات كان مصطلح "التجديد" ما زال هامشياً، ومصطلح "الإصلاح" كان ممثلاً للخطاب الإسلامي المتحدّي للأزمة المعاصرة . بين كتاب المودودي ومن قبله مقالة الخولي وبين كتاب إقبال "التفكير الديني في الإسلام" (بترجمته العربية) وكتاب عبدالمتعال الصعيدي "المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر" اللذين صدرا عام 1955م لا يوجد ما يشير إلى هذا المصطلح(التجديد)، وسنشهد بعد صدور هذين الكتابين عددا من الكتب تحمل في عنوانها مصطلح «التجديد» مما يشير إلى أن ظهور المصطلح كان في هذا الوقت بالذات، ومما يؤكد هذه المقاربة الزمنية أن عبد المتعال الصعيدي(المذكور آنفاً) نفسه كان قد أصدر كتابه"تاريخ الإصلاح في الأزهر" في أوائل الخمسينيات الذي يعتمد فيه كلياً على مصطلح"الإصلاح" حتى إذا كتب "المجددون في الإسلام" كان مصطلح التجديد قد أخذ يحل بشكل نهائي وكامل مكان "الإصلاح". إن أهم ما يمكن ملاحظته في مصطلح "التجديد" أنه وريث إصلاحية محمد عبده، أولاً، وثانياً أن الشاغل الأساسي له يتلخص في"تحدي الغرب" المتمثل في هيمنته الحضارية والسياسية والثقافية. إذا كان مفهوم «التجديد» مرتبطاً منذ صدر الإسلام بـ "تحديات العصر"، فإن مفهومه سيجد اليوم إجابات عديدة، وبالتالي مفاهيم عديدة في وقت واحد، ولأن هذا النوع من الإجابات ليس بمستوى وضوح الإجابات في عهود السلف، فإنه من الطبيعي أن يؤدي الانقسام حوله إلى انقسام في الوعي الإسلامي لن يزول - بطبيعة الحال- إلاّ بزوال السبب نفسه، أعني التحدي المتمثل في هيمنة الغرب الحضارية. 2. اتجاهات تفسير «مفهوم» التجديد: - "التجديد" سلفياً: برز اتجاه متمسك بتفسيرات السلف الصالح لمصطلح التجديد، واعتبر الخروج عليه نوعا من الابتداع والتحريف في الدين، وأبرز من يمثله صاحب كتاب "مفهوم التجديد: بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين" الدكتور محمود الطحان، وبالرغم من أهمية الدعوة للتمسك بكلام السلف. وإذا كان "إحياء السنة وإزالة البدعة" و"إحياء الدين" هي مقولات التجديد لدى السلف، فإنها أصبحت اليوم في معظمها من مُسَلَّمات المسلمين، لكن المشكلة تكمن دوماً في التحديات الجديدة. ومن الملاحظ أنه في هذا الاتجاه يبرز تحديد مفهوم "التجديد" بـ "الاجتهاد في مستجدات العصر" ومستجدات العصر هنا ليست إلاّ مستحدثات فقهية. - التجديد كاجتهاد مفتوح: يستخدم مفهوم التجديد لدى شريحة واسعة من الكتّاب والمفكرين بمعنى "الاجتهاد" المفتوح، الذي يتمرد على الأطر المذهبية، ويتجاوز الحدود الفقهية، أي يصبح الاجتهاد - حسب تعبير العلامة فتحي الدريني- "تعقل واكتناه حقائق التشريع وأسراره" والتفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية. في هذا الاتجاه لا يعود هناك حدود للاجتهاد، ما دام الأمر يعني أن الاجتهاد علم له قواعده، وما دام أن الوقف عند النّص(تفسيراً وتأويلاً) شرط لاعتباره في دائرة الإسلام، فإن الاجتهاد لا يصبح له حدود إلاّ حدود النص نفسه. لكن يبقى أن الذين يدعون إلى اعتبار التجديد "اجتهاداً" مفتوحاً ينقسمون إلى فئتين: الأولى: تعتمد مرجعيّة العلوم الإسلامية المعروفة، وتجد أن فيها كفاية لتحقيق الاجتهاد، في حين أن الفئة الثانية تتوسل بالإضافة إلى ذلك بالعلوم الغربية، ونظراً لارتباط هذه العلوم بالغرب، فإن ثمة حساسية لازمة بين كل من الفريقين تجاه الآخر، حيث يرى بعضهم أن الغرب كل واحد لا يتجزّأ، لا ينفصل فيه الثقافي عن السياسي، والأهم أن هذا الاتجاه يقوم على أن المشكلة تكمن في شقين: الأول هو وعي المسلمين وذهنهم، الذي تراكمت عليه أحداث واجتهادات أربعة عشر قرناً هجرياً، والثاني هو الواقع الموضوعي المشاهد والمتمثل في الغرب، وبالتالي فإن الحل الذي يفترض لذلك فتح باب الاجتهاد من أجل كشف الخلل القائم في الذهنية المسلمة من أجل بعث قدراتها من جديد في الإبداع والتحضر والتقدم، والاستفادة من علوم الغرب وتحديه بأدواته نفسها، والسيطرة على الواقع الذي أفرزه هو بالدرجة الأولى. - اتجاه إصلاح مناهج الفكر: تشخيص الأزمة في هذا الاتجاه، تولد عنه مفهوم أكثر تحديداً للاجتهاد، في هذا الاتجاه ينظر إلى أزمة المسلمين على أنها ليست أزمة تتعلق فقط بتراثهم أو بواقعهم الخارجي، بل هي أزمة أكبر من ذلك، هي أزمة تتعلق بالحضارة الإسلامية برمتها، تتلخص في فقدان السيطرة على الواقع وتوقف الإبداع الفكري والتقدم المادي لدى المسلمين، بمعنى أن التحولات التاريخية المعقدة في العقل الإنساني وتركيبه الاجتماعي وتطور العلاقات الإنسانية وتغيير منطق الحياة اليومية مع ولادة تكنولوجيا تتحكم في كل لحظة بحياة الإنسان، والتقدم المثير في المعرفة أصبحت المدارس الفكرية الإسلامية المترشحة عن جهود السلف في وضعها الحالي عاجزة عن التحكم بهذا الواقع؛ أي أنها أصبحت مستنفذة تاريخياً، فالأزمة وجدت في ظل هذه المناهج والمدارس التقليدية، ومن جهة ثانية فإن هذه الأزمة التي وجدت فيها المنهجية الإسلامية "التقليدية" سمحت للمتعلمين من أبناء المسلمين أن يستلبوا للغرب بسهولة، وهكذا فإذا كان علينا أن نخرج من هذا فإن ما تقتضيه هذه الرؤية هي أن التجديد الديني يعني إنشاء ما يشبه نسقا فكريا(Paradigm) جديدا إذا جاز لنا استعارة نظرية توماس كون في "بنية الثورات العلمية". | ||
منقول