فى الوقت الذى بدأت تظهر فيه قوة
الدول الأوروبية وضعف الدول الإسلامية بصفة عامة, والدولة العثمانية بصفة
خاصة, كان الحل بالنسبة لرجال الفكر والطبقة المتعلمة هو الإنفتاح على
أوروبا. وأخذ سر قوتهم التى تتمثل فى العلوم الحديثة ونظم الحكم.
وكان
الحل بالنسبة لرجال الدين والسلاطين العثمانيين هو وحدة العالم الإسلامى
حول الخليفة أو السلطان وطاعته فى حالة الرضا, وعدم الثورة عليه فى حالة
الغضب. المسلمون يجب أن يطيعوا أولى الأمر. يشكرونهم إن أصلحوا, داعين لهم
بالهداية إن فسقوا.
فى الوقت الذى كانت تحتل فيه إنجلترا الهند(قبل
التقسيم), وتحتل فيه فرنسا شمال أفريقيا, وروسيا القوقاز وتركستان, كان
السلطان عبد الحميد فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر, يجمع حوله رجال
الدين ومشايخ الطرق الصوفية أمثال الشيخ محمد ظافر من مكة وبعض أعضاء
الطريقة الشاذلية والشيخ فضل شيخ الطريقة العلوية من حضرموت والشيخ أبو
الهدى السيدى شيخ الطريقة الرفاعية. وذلك لموازنة الفكر الوهابى الأصولى فى
ذلك الوقت.
فى هذه الآونة ظهرت دعوة أخرى جادة تهدف إلى وحدة
العالم الإسلامى فى مواجهة الخطر الأوروبى. هذه الدعوة, إلى جانب مناداتها
بالوحدة الإسلامية, كانت دعوة فى نفس الوقت إلى الإصلاح السياسى
والإجتماعى. دعوة إلى إيقاظ العالم الإسلامى من سباته العميق. لكى يواجه
الخطر المحدق به. خطر التخلف والإحتلال الغربى. هذه الدعوة تمثلت فى شخصية
فريدة فى التاريخ المعاصر. تركت بصماتها على الحركات الإسلامية التى ظهرت
فى العالم الإسلامى الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن. هذه
الشخصية هى شخصية جمال الدين الأفغانى(1839 – 1897م).
بالرغم من
شهرة جمال الدين الأفغانى, إلا أن أصل وطنه لا يزال يشوبه الغموض. فهو
ينتسب إلى الأشراف سلالة الرسول, يدعى أنه أفغانى الجنسية, من البلد التى
أعطتنا "طالبان". لكن أعداؤه يتهمونه بأنه شيعى من إيران تعلم فى مدينتى
النجف وكربلاء. وكتاباته ومحاضراته تدل على أنه كانت لديه معرفة جيدة
بالفلسفة الإسلامية. وخاصة فلسفة ابن سينا, التى كانت لا تزال حية فى إيران
فى ذلك الوقت.
كان الأفغانى خطيبا بارعا. يتقن عدة لغات. كرس
حياته كلها للدفاع عن الإسلام والدول الإسلامية التى يتهددها خطر الإستعمار
الغربى. وكان يرى, كما شاهد فى الهند, أن الإستعمار يعمل على تفتيت الأمة
وإضعاف إيمانها بعقيدتها. وكان يعتقد أن شعوب الغرب ليست بأفضل من الشعوب
الإسلامية. إنما يرجع ضعفها إلى عدم إتحادها وجهلها وعدم تمسكها بقيمها
الخلقية التى تدعو إليها الأديان. وأن الدول الإسلامية ضعيفة لأن الإسلام
فيها شعائر فقط وليس حضارة. وأن الواجب الأساسى للمسلم هو أن يساهم فى
الحضارة. لأن سر قوة الغرب تكمن فى إتقانه للعلوم والتكنولوجيا والإدارة
والتنظيم والسياسة والإقتصاد. ولكى يتفوق العالم الإسلامى على العالم
الغربى, يجب أن يتفوق المسلمون على الغرب فى درجة إستيعابهم وإستخدامهم
لهذه العلوم.
هذه الأفكار لم تكن جديدة بالنسبة للعالم الإسلامى.
فمثلا, كان محمد على باشا الكبير حاكم مصر, قبل الأفغانى, يأخذ بالعلوم
الغربية لتقوية البنية الأساسية للدولة المصرية. لكن الجديد فى دعوة
الأفغانى, أنها كانت تطلب الأخذ بالعلوم الغربية للدفاع عن الإسلام نفسه.
وكان يطلب بكل قوة وعزم فتح باب الإجتهاد من جديد. وكان يرفض بكل شدة
الإمتثال إلى فتاوى المدارس القديمة بغير تفكير. ويطلب العودة إلى روح
الإسلام وبساطته. وكان يشجب الخرافات والشعوذة التى تشوه صورة جمال الدين
الحقيقية.
الإسلام يدعو إلى الوحدة وإلى التقدم الإجتماعى. وإلى
طلب العلم واستخدام العقل. وإنقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب, هو سبب ضعفهم.
ويطلب الأفغانى من المسلمين الإستفادة بما حدث فى ألمانيا أيامه. عندما
فقدت المانيا وحدتها القومية بسبب صراعها الدينى. وكان يرى أن الخلاف بين
السنة والشيعة, يمكن علاجه بما يعود بالفائدة على كل المسلمين.
لذلك
نجد الأفغانى ينادى بوحدة إيران مع أفغانستان. وكان من رأيه أن الحكام
المسلمين, يجب أن يعملوا على ما فيه مصلحة العالم الإسلامى. ولم يكن يعنى
بالوحدة الإسلامية, إذابة كل الفوارق والحدود بين الدول الإسلامية وتوحيدها
تحت حاكم واحد, أو إعادة نظام الخلافة. إنما كان يعنى بالوحدة, وحدة الهدف
والمصير. ووقوف كل دولة بجانب الأخرى وقت الشدائد. وإذا لم يوجد مثل هذا
التعاون بين الدول الإسلامية, يكون المسلمون فى هذه الحالة, غير ملزمين
بطاعة حكامهم. وقد كان الأفغانى يعتقد أن حكام الدول الإسلامية فى ذلك
الوقت, غير جديرين بمناصبهم. ولا يهتمون إلا بإشباع شهواتهم الحسية. وقعوا
جميعا فى براثن النفوذ الأجنبى. وهم من أهم أسباب ضعف وتخلف شعوبهم.
الأفغانى
رجل فهم رسالته وما تتطلبه من جهاد. فلم يرتبط بأسرة. ولم يستعبده مال.
عاش لأفكاره ومبادئه. تكفيه وجبة واحدة فى اليوم. أعد نفسه للنفى فى كل
لحظة.
قضى جمال الدين الأفغانى فترة من شبابه فى إيران. ثم قضى
فترة أخرى من شبابه فى الهند. درس أثناءها العلوم والرياضيات الحديثة. ثم
ذهب بعد ذلك إلى أفغانستان حيث إشتغل بالسياسة حتى وصل إلى درجة وزير.
وعندما قام إنقلاب فى أفغانستان ضد الحكومة بمساعدة الإنجليز, فر الأفغانى
إلى الحجاز, ومنها إلى الهند. لكنه طرد من الهند فذهب إلى إستامبول مارا
بمصر, حيث تعرف هناك على الإمام محمد عبده عندما كان طالبا صغيرا فى
الأزهر. وفى إستامبول, ألقى الأفغانى محاضرة, رفع فيها من شأن الفلسفة
الإسلامية, إلى الدرجة التى أغضبت رجال الدين المتحفظين فى تركيا.
غادر
الأفغانى تركيا إلى القاهرة, لكى يجد هناك ترحيبا من رياض باشا رئيس
الوزراء, الذى خصص له معاشا شهريا قدره عشر جنيهات. واستمر الأفغانى فى
القاهرة مدة ثمان سنوات من عام 1871م إلى عام 1879م. كانت أهم سنوات حياته.
قضاها فى إلقاء المحاضرات. وكون خلالها مجموعة تلاميذ, لعبوا دورا هاما فى
مستقبل مصر السياسى. منهم, الإمام محمد عبده وسعد زغلول, الذى أصبح فيما
بعد, بطل مصر الوطنى وزعيم ثورة 1919, ورئيس الوزراء. ومن تلاميذه أيضا,
محمود سامى البارودى, وعبد السلام المويلحى, وإبراهيم المويلحى, وإبراهيم
اللقانى, وعلى مظهر وسليم النقاش وأديب إسحق وأحمد لطفى السيد وغيرهم.
كانت
هذه السنون الثمانى من أشق السنين على مصر. إذ بعد أن كانت البلاد تعيش فى
رغد, استدانت لرفاهية غير ضرورية. حتى بلغت الغاية فى الدين. فأخذ
الدائنون يحجرون عليها ويتدخلون فى شئونها ويشرفون على مصادرها ومواردها.
وبلغت الديون التى إقترضها الخديو إسماعيل فى الفترة ما بين سنة 1864م وسنة
1875م, نحو خمسة وتسعين مليونا من الجنيهات. فجاءت بعثة "كيف" سنة 1875م
لفحص مالية مصر واقترحت إنشاء مصلحة للرقابة على ماليتها, وأن يخضع الخديو
لمشورتها.
وأنشئ صندوق الدين سنة 1876م, فكانت حكومة أجنبية داخل
الحكومة المصرية. وأنشئ نظام الرقابة الثنائية فى نفس السنة. وكان من
مقتضاه أن يتولى الرقابة على المالية المصرية مراقبان, أحدهما إنجليزى
والآخر فرنسى. وتطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برياسة
نوبار باشا يدخلها وزيران أوروبيان. أحدهما إنجليزى والآخر فرنسى. كل هذا
حدث مدة إقامة الأفغانى فى مصر. وكان من طبعه الإنغماس فى السياسة.
كان
الأفغانى يدرس لتلاميذه فى منزله مفهومه للإسلام الصحيح. وإلى جانب دراسة
الإسلام كدين وفقه, كان يشرح لتلاميذه أصول الشريعة والتصوف والفلسفة
الإسلامية التى حرم الأزهر تدريسها منذ مدة طويلة. والتى كان ولا يزال ينظر
إليها رجال الدين فى مصر بالشك والريبة.
فى مدرسة الأفغانى, تحول
الأدب من خادم للأرستقراطية, إلى خادم للحقيقة والشعب الكادح. فقد كان
الأدب فى الماضى, لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء, والتغنى بأفعالهم
وصفاتهم, مهما بلغ من ظلمهم. فكل حاكم عبقرى زمانه وفريد عصرة وأوانه. صاحب
معجزات, ومعصوم من الخطأ. يقترف الكوارث من الأفعال فلا يلام. يشاد بفضله
إن عفا ويغفر له إن هفا. الفن والشعر والنثر أدوات خلقت لكى تطربه وتسليه.
وسبل عملت لنهش وتجريح أعدائه.
فأتى جمال الدين الأفغانى ليسخّر
الأدب فى خدمة عامة الشعب. يطالب بحقوقه ويدفع الظلم عنه, ويهاجم من اعتدى
عليه. الأدب وسيلة لكى تبين للناس سوء حالهم ومواضع بؤسهم. ولكى تبصرهم
بسبب فقرهم دون الأمم. أدب جديد ذو هدف نبيل. يهتم بعامة الناس, لا
بالملوك والأمراء والصفوة. ينشد الحرية, ويناهض العبودية, ويبصر الحاكم
بواجباته المنسية, ويهدى الناس إلى حقوقها المهضومة.
كان الأفغانى
فى نفس الوقت, ينبه تلاميذه إلى الخطر الخارجى المحدق بالعالم الإسلامى.
الخطر الذى رآه الأفغانى, ليس خطر فقد الإستقلال السياسى فقط, وإنما خطر
القضاء على الإسلام نفسه. وكان ينبههم إلى الحاجة إلى بعث القومية والوحدة
الإسلامية, لمقاومة هذا الخطر. والحاجة الماسة أيضا إلى الإصلاح السياسى,
وتقييد سلطات الحاكم بالدستور. لأن الأفغانى وجد أن ضعف العالم الإسلامى
يرجع بدرجة كبيرة إلى فساد حكامه وطغيانهم.
قام الأفغانى بتشجيع
تلاميذه على الكتابة وإصدار الصحف. فمثلا, قام بتشجيع "أديب إسحق" على
إنشاء جريدة "مصر" وكان يساهم بالعديد من المقالات فيها. ثم أوعز إليه
بالإنتقال إلى الإسكندرية وإصدار صحيفة يومية اسمها "التجارة". وكان
الأفغانى يكتب لهاتين الصحيفتين. هو والإمام محمد عبده, وإبراهيم اللقانى,
وغيرهما.
لقيت صحيفتى "مصر" و"التجارة" رواجا كبيرا, ولفتا لهما
الأنظار بروحهما الجديدة. لكن أغلقهما للأسف رياض باشا. وكان الأفغانى
يوجه الكتّاب إلى الكتابة فى الوقائع المصرية وأمثالها. فربى بذلك طائفة من
الصحفيين والأدباء, تحسن الكتابة وتحسن اختيار الموضوعات التى تمس حياة
الأمة فى صميمها.
قام الأفغانى بالإتصال, كذلك, بالكاتب الفكه
"يعقوب صنوع" لكى ينشئ مجلة هزلية اسمها "أبو نضارة". ينتقد فيها سياسة
إسماعيل باشا. وكان يقول مخاطبا الشعب المصرى: "هبوا من غفلتكم! اصحوا من
سكرتكم! عيشوا كباقى الأمم أحرارا سعداء" ومنذ ذلك الحين بدأت شرارة الثورة
العرابية.
ماذا يريد الأفغانى من الشعب المصرى. يريد منه أن يتحرر
من العبودية للحكام. وأن يفهم الناس علاقتهم بالحاكم وعلاقة الحاكم بهم,
ويعرف كل منهم حدوده. وإن تعدى الحاكم هذه الحدود قال له الشعب لا.
كان
يهدف الأفغانى من إصدار الصحف تشكيل الرأى العام. لكى يعمل كقوة ضاغطة
للإصلاح والتغيير. فالتغيير لا يتم إلا إذا كان مطلبا شعبيا. وكان الأفغانى
على علاقة طيبة بالأمير توفيق ابن الخديو إسماعيل فى بادئ الأمر. لكنه بعد
أن أصبح خديو مصر, بعد عزل والده الخديو إسماعيل, سعى إليه الساعون.
فإجتمع مجلس الوزراء وقرر نفى الأفغانى بتهمة أنه رئيس جمعية سرية من
الشبان ذوى الطيش. مجتمعة على فساد الدين والدنيا. وها هى قصة سقراط تتكرر
من جديد.
تم القبض علي الأفغانى وعلى خادمه أبى تراب عام 1871م.
وأودعا باخرة سارت بهما إلى بمباى فى الهند. وكان هذا آخر العهد بالأفغانى
فى مصر. ويقال أن الطرد كان بإيعاز من الإنجليز, وأيضا بسبب خوف الخديو من
تأثير الأفغانى على الطبقة المثقفة فى البلاد.
غادر الأفغانى مصر,
لكى يقضى عدة سنوات فى حيدر أباد فى الهند. منفيا لا يسمح له بالتنقل. كان
خلالها تحت الرقابة البريطانية المتواصلة. وفى هذه المدة, ألف كتابه "رسالة
فى إبطال مذهب الدهريين" وقد كتبت بالفارسية ثم ترجمت إلى الأردية ثم
ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية بمعاونة تابع الأفغانى.
يقول
الدكتور أحمد أمين, فى كتابه "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث", أن مذهب
الدهريين قديم. تراه فى البوذية وعند قدماء المصريين, وعند بعض فلاسفة
اليونان. ظهر فى العصر الحديث فى الثورة الفرنسية. ودعا إليه كثير من
الفلاسفة فى إنجلترا وفرنسا والمانيا. وعرفه العرب قديما وسموا أصحابه
"الدهريين". وحكى مذهبهم الجاحظ والشهرستانى وغيرهما من مؤرخى المذاهب.
وحجة الأفغانى فى تفنيد مزاعم الدهريين هى أن الأديان هى علة العمران
وعليها تتوقف سعادة الإنسان. أما الدهريون والماديون, كما يقول الأفغانى,
فتؤدى تعاليمهم إلى إنكار هذه السنن. فتنزل الإنسان منزلة الحيوان. وتفقده
الباعث على الخير. وتعده لحياة جامدة ضيقة جافة لا قلب لها ولا سمو فيها.
وهذا انتكاس لخلقه وهدم لكيانه.
عندما قامت الثورة العرابية, نقلته
حكومة الهند إلى كلكتا مخفورا مراقبا حتى انتهت الثورة العرابية باحتلال
إنجلترا لمصر عام 1882م. حينئذن, سمح له بالتنقل حيث شاء, فيما عدا أقطار
الشرق. فسافر إلى لندن عام 1883م. ومنها إلى باريس, ليلتحق به تلميذه محمد
عبده من منفاه فى بيروت عام 1884م.
وكان تلميذه محمد عبده,
يكاد يدب إليه اليأس من الجيل الحاضر. بعد أن خبر الناس فى حوادث عرابى
ورأى غدرهم وقلة وفائهم وتكالبهم على المصالح الشخصية. فأشار على الأفغانى
أن يذهبا معا إلى مكان بعيد عن سلطة الحكومات, لإنشاء مدرسة للزعماء.
يختاران لها التلاميذ النجباء الناشئين من الأقطار الإسلامية, ومن يتوسمان
فيهم الخير. وذلك لكى يكونوا بذورا وأنوية لنشر الإصلاح فى البلاد.
لكن
هذا الراى لم يعجب الأفغانى. واعتبره مبالغة فى التشاؤم. ووضع خطة بديلة
لإنشاء جريدة عربية فى باريس للعالم الإسلامى. تفهمه حقوقه وواجباته, وتشعل
وطنيته. ثم قام الأفغانى والشيخ محمد عبده بتكوين منظمة سرية إسلامية
تعمل على الإصلاح والوحدة الإسلامية. وبالرغم من أن المنظمة كان لها فروع
فى تونس وبعض البلاد العربية, إلا أن نجاحها كان محدودا.
قاما أيضا,
أثناء إقامتهما فى أوروبا, بإصدار جريدة "العروة الوثقى". للكشف عن مخططات
الدول الإستعمارية الكبرى فى العالم الإسلامى. خصوصا نوايا إنجلترا
بالنسبة لمصر والسودان. وكذلك للكشف عن أسباب ضعف المسلمين, وطرق علاج هذا
الضعف. وكانت الأفكار للأفغانى والتحرير والصياغة للشيخ محمد عبده,
والترجمة لميرزا محمد باقر, يعرب لها عن الصحف الأجنبية كل ما يهم العالم
الشرقى.
صدر من جريدة "العروة الوثقى" ثمانية عشر عددا فى ثمانية
أشهر خلال عام 1884م. وكان الغرض منها بيان الواجبات للشرقيين لتدارك ما
فات, وبث الأمل فى النفوس, والدعوة إلى التمسك بالأصول والقيم النبيلة,
والدفاع عن أهل الشرق من التهم الباطلة التى تنسب إليهم زورا وبهتانا,
وإعلام الشرقيين بما يدور من حوادث سياسية وعامة فى الغرب تخصهم حياتهم
ومستقبلهم, وتقوية الصلات بين الأمم الإسلامية.
كان الأفغانى يناهض
الإحتلال الأجنبى فى الأقطار الإسلامية وخاصة فى مصر بكل قوته. ويؤلب عليه
فى غير هوادة. وكان يرسل الرسل إلى موسكو, للإتصال بالمسلمين هناك,
والحجاز ومصر وتونس لنشر التعاليم التى لا يستطيع نشرها فى جريدة "العروة
الوثقى".
سرعان ما أصبحت جريدة "العروة الوثقى" أخطر جريدة فى
العالم الإسلامى فى ذلك الوقت. وبالرغم من أنها كانت ممنوعة من دخول كل
البلاد التى تقع تحت الإحتلال البريطانى, إلا أنها قد إنتشرت إنتشارا
سريعا. وكان من النادر أن تجد أحد القادة أو المفكرين فى العالم الإسلامى
فيما بعد, لم يتأثر بجريدة "العروة الوثقى". وبسبب شدة المراقبة واستحالة
وصول الأعداد إلى قرائها إلا فى القليل النادر وبكثير من التحايل, توقف
صدور "العروة الوثقى". إحتجبت والأسى يحز فى نفس القائمين عليها. فلا
دعواهم وجدت من يلبيها, وهم استمروا فى دعواهم حتى تؤتى ثمارها.
ترك
الأفغانى أوروبا لكى يعمل مستشارا للشاه ناصر الدين فى إيران. لكنه, خلال
عام واحد, كان قد إختلف مع الشاه. مما أدى إلى طرده شر طردة من إيران. وكما
يصف هو: "سحبونى على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وفضيحة لا يمكن أن يتصور
دونها فى الشناعة...ثم حملنى زبانية الشاه وأنا مريض على دابة مسلسلا فى
فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية. وساقنى حجفلة من الفرسان إلى
خانقين". ومنها سافر إلى البصرة يعانى ألم المرض الذى إشتد عليه من هذا
الحادث, وكاد يؤدى به لولا لطف من الله.
لذلك آل الأفغانى على نفسه
أن ينتقم من شاه إيران. وألاّ تهدأ نفسه حتى ينزله عن عرشه. وقد بر فيما
أقسم به. فأخذ يكتب إلى علماء الدين ليهيجهم على الشاه. ولا يتورع أن يصفه
بأقبح الصفات ويبين ضرره على الأمة ويثير عاطفتهم الدينية ليثوروا عليه.
وكان الشاه قد تعاقد مع شركة إنجليزية على إحتكار التبغ عام 1891م. فانتهز
الفرصة وأبان الضرر على الأمة من هذا الإحتكار. فهاج رجال الدين على الشاه.
مما اضطره إلى فسخ العقد ودفع نصف مليون ليرة تعويضا للشركة.
استمر
الأفغانى فى مناهضته لشاه إيران. وحاضر نبلاء الإنجليز وكبارهم فى مصائب
الشاه على إيران. وساهم فى إخراج مجلة شهرية "ضياء الخافقين" يفضح فيها
حكومة الشاه, وسوء الإدارة, وتفشى الرشوة وتعذيب المواطنين.
فى
العام التالى عام 1892م, دعاه السلطان عبد الحميد إلى القسطنطينية. خوفا من
أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة. فيكون قوة كبرى إلى قوتهم. خصوصا وقد كان
الأفغانى قد اجتمع فى باريس ببعض رجال هذه الجمعية. وأطلعوه على خطتهم فى
إصلاح الدولة العثمانية. كما أن شاه إيران كان قد وسط السلطان عبد الحميد
فى كف اذى الأفغانى.
فى بادئ الأمر, رفض الأفغانى دعوة السلطان عبد
الحميد. إلا أن السلطان سلط عليه حيله ومكايده. ووعده بتنفيذ آرائه فى
الإصلاح. فى بادئ الأمر, نجده قد حظى بحفاوة السلطان عبد الحميد. فقد صرف
له 75 ليرة شهريا. وأنزله بيتا ظريفا فى يلدز. وجعل تحت أمره عربة وخدما
وحشما. بعضهم للخدمة وبعضهم للتجسس.
خيّل للأفغانى أنه بمعونة
السلطان, يستطيع أن يوسع دائرة الإصلاح. فيضع خطة لجامعة إسلامية. ويرسم
منهج إصلاح الإدارة فى الدولة العثمانية وإصلاح التعليم. لكن الظروف فى
تركيا فى عهد السلطان عبد الحميد, لم تكن مواتية للإصلاح فى ذلك الوقت.
قابل
السلطان عبد الحميد الأفغانى فى يلدز. فوجده شخصية جريئة جرأة لم يشهدها
من قبل. يطلب منه السلطان أن يترك مهاجمة الشاه, فيقول الأفغانى: "إنى
لأجلك قد عفوت عنه". فيرتاع السلطان لمثل هذا القول, والأفغانى فى حضرته
يلعب بحبات السبحة. وعندما يلفت نظره رئيس التشريفة بعد خروجه, يقول: "إن
السلطان يلعب بمستقبل الملايين من البشر, أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب
بسبحته كما يشاء؟" فيفزع رئيس التشريفة خشية أن يكون قد سمعهما أحد.
عندما
عرض عليه السلطان منصب شيخ الإسلام, رفض, إلا إذا عدّل النظام من أساسه
أولا. وكان رأيه فى السلطان عبد الحميد أنه ذكى واسع الاطلاع واسع الحيلة,
لكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته. وعندما إختلف الأفغانى مع الشيخ
أبو الهدى, أتهم بأنه كان وراء مقتل الشاه ناصر الدين فى إيران عام 1896م.
حدث
أن الشاه ناصر الدين, الذى كانت بينه وبين الأفغانى الخصومة المذكورة, قد
قتله أحد تلاميذ الأفغانى, وممن كانوا يزورونه فى الآستانة. وروى أنه عندما
طعن القاتل طعنته قال: "خذها من يد جمال الدين".
سواء كان جمال
الدين الأفغانى وراء مقتل الشاه مباشرة, أم أن الشاه قتل بسبب أفكار
الأفغانى وتحريض الثوار, فالسلطان عبد الحميد قد وعى الدرس. وعلم بمدى
خطورة رجل مثل الأفغانى فى بلاده. لذلك نجد الأفغانى يقضى عامه الأخير شبه
سجين فى البلاط السلطانى. ويقال أن طبيب الأسنان الذى كان يعالجه, دس له
السم فى حشو أحد أسنانه. لكى يلقى ربه عام 1897م. وشيعت جنازته كأقل الناس.
لم يسر فيها إلا أفراد معدودون غلبتهم الجرأة والوفاء. ودفن كما يدفن عامة
الناس. ومنعت الجرائد فى الولايات العثمانية من تأبينه.
هذه
كانت أفكار جمال الدين الأفغانى لإيقاظ العالم الإسلامى من سباته العميق.
وكان جمال الدين الأفغانى يرى أن إصلاح الحكومة يأتى عن طريق إصلاح الشعب.
"القوة النيابية لأى أمة لا يكون لها قيمة حقيقية إلا إذا نبعت من نفس
الأمة. وأى مجلس نيابى يأمر بتشكيله ملك أو أمير أو قوة أجنبية, هو مجلس
موهوم موقوف على إرادة من أحدثه". العقول والنفوس أولا, والحكومة ثانيا.
وما فائدة حكومة صالحة إذا كان الشعب غير صالح؟
رحم الله جمال
الدين الأفغانى رحمة واسعة. فقد كان رجلا لا ككل الرجال. أيقظ أمما وشعوبا
بأسرها بمفرده. عاش وحيدا شريدا طريدا ومات مقتوا. لكنه وهب نفسه وعقله
وقلبه لخدمة الحق والعدل والإنسانية. ومهما قلنا أو فعلنا, فلا نستطيع أن
نوفى هذا الرجل حقه نظير خدماته النبيلة للشعب المصرى. فلولاه, لما سمعنا
عن الإمام محمد عبده أو سعد زغلول أو أحمد لطفى السيد أوالكثير من أبطال
مصر وقادتها. وكلهم كانوا من تلاميذه المخلصين. ولواه, لتأخر إستقلال
البلاد وتعطل ظهور عصر النهضة المصرية فى بداية القرن العشرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق