اسمه ونسبه :
هو عبد
الحميد بن محمّد المصطفى بن المكّيّ بن محمّد كحول بن علي سليل الجدّ
الأعلى "مناد بن منقوش" كبير قبيلة تَلْكَاتَة (أو تُلُكّاتة أو
تْلَكّاتة) وهي فرع من أمجاد صنهاجة أشهر القبائل البربرية في الجزائر
والمغرب الإسلامي.
ونسب
أُسْرَتِهِ عريق في الشرف والمكانة، مشهور بالعلم والثراء والجاه، عرفت
منه شخصيات تاريخية كبيرة من أبرزها "المعزّ لدين الله بن باديس" أشهر حكام
الدّولة الصّنهاجيّة التي عرفت باسم دولة "بني زيري" نسبة إلى الأمير
"بلكّين بن زيري بن مناد الصّنهاجيّ".
كما عُرفت شخصيات أخرى من نسبه العريق، حتى أن "شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون" (988-1073 هـ/1580-1662 م) ذكر
أنه اجتمع أربعون عمامة من أسرة "بن باديس" في وقت واحد في التّدريس
والإفتاء والوظائف الدينية، وتكاد تكون وظيفة القضاء في قسنطينة قاصرة على
علماء هذه الأسرة زمنا طويلا; من أشهرهم القاضيان "أبو العبّاس حميدة بن
باديس"، وجده لأبيه "المكّيّ بن باديس".
وَالِدُهُ "محمّد
المصطفى بن باديس" صاحب مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف، تبوأ منصب النائب
المالي والعمالي لقسنطينة، وعضوا في المجلس الجزائري الأعلى وباش آغـا
شرفيا، ومستشارا بلديا بمدينة قسنطينة. وشحت فرنسا صدره "بوسام الاحترام"
من رتبة "أوفيسي". ويعود إليه الفضل في إنقاذ سّكّان منطقة واد الزناتي من
الإبادة الجماعية عام 1945 م على إثر حوادث 8 ماي المشهورة. وقد اشتغل كذلك
بالفلاحة والتجارة، وأثرى فيهما.
وَالِدَتُهُ
"زهيرة بنت علي"; كريمة من كرام عائلة "ابن جلول" المعروفة بالعلم والصلاح
والثراء في مدينة قسنطينة، وهي من قبيلة "بني معاف" المشهورة في جبال
الأوراس.
مولده :
وُلِدَ
الشّيخ عبد الحميد بن باديس يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الثاني سنة
1307 ﻫ الموافق للرابع من ديسمبر سنة 1889 م بمدينة "قسنطينة"،وهو الولد
البِكر لأبويه.
نشأته وتعليمه :
نشأ
الشّيخ ابن باديس في أحضان أسرة متمسكة بالدين والمحافظة على القيام
بشعائره، وحرصا على تنشئة أبنائها على أساس تربية إسلامية وتقاليد أصيلة;
عهد به والده وهو في الخامسة من عمره إلى الشّيخ "محمّد بن المدَّاسي" أشهر
مُقرئي بقسنطينة، فحفظ القرآن وتجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة..
ولما أبدى نجابة في الحفظ وحسن الخلق، قدّمه ليؤم المصلين في صلاة
التراويح لمدّة ثلاثة سنوات متوالية في الجامع الكبير. ثم تلقى منذ عام
1903 م مبادئ العلوم العربيّة والشّرعيّة بجامع "سيدي محمّد النجار" من
العالم الجليل الشّيخ "حمدان الونيسي" وهو من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر
طيب في حياته.
وفي سنة 1910 م سُجل بجامع الزّيتونة حيث أكمل تعليمه ووسع معارفه، فتتلمذ على صفوة علماء الزّيتونة ومشاهير
الأعلام أمثال الشّيوخ : "محمّد النّخليّ القيروانيّ"، و"محمّد الطّاهر بن
عاشور"، و"محمّد الخضر بن الحسين"، و"محمّد الصادق النيفر".. لينال عام 1911 م شهادة
التّطويع (العَالِمِيَّة) وكان ترتيبه الأوّل بين جميع الطّلبة الناجحين،
وهو الطالب الجزائريّ الوحيد الذي تخرّج في تلك الدّورة ثّم بقي بتونس
عاماً بعد تخرّجه يُدَرّس ويَدرس على عادة المتخرجين في ذلك العهد.
رحلته إلى الحجاز :
لم
يكن للشّيخ ابن باديس من غرض بعد عودته من تونس إلا الانتصاب للتّعليم في
مسقط رأسه "قسنطينة"، فباشر إلقاء الدّروس من كتاب "الشّفا" للقاضي عياض في
الجامع الكبير، لكنّه سرعان ما منع من الإدارة الفرنسيّة بسعي المفتى في
ذلك العهد; بعدها عزم على أداء فريضة الحجّ عام 1913 م.
وبعد
أداء مناسك الحجّ زار المدينة المنوّرة ومكث بها ثلاثة أشهر، تعرّف فيها
على الشّيخ "محمّد البشير الإبراهيميّ" وقضا معه ليالي تلك الأشهر الثلاثة
كلها في وَضْع البرامج والوسائل التي تنْهَضُ بها الجزائر. كما أتيح له أن
يتّصل بشّيخه "حمدان الونيسي" والتقى بمجموعة من كبار العلماء منهم الشّيخ
"حسين أحمد الفيض أبادي الهنديّ"، وألقى بحضورهم على مشهد كثير من المسلمين
درساً في الحرم النّبويّ.
وفي
تلك الفترة وجد الشّيخ ابن باديس نفسه بين خيارين، إما أن يلبي دعوة شيخه
"الونيسي" في الإقامة الدائمة بالمدينة وقطع كل علاقة له بالوطن، وإما أن
يأخذ بنصيحة الشّيخ "حسين أحمد الهندي" بضرورة العودة إلى وطنه وخدمة
الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد.. فاقتنع برأي الشّيخ الثاني، وقرر الرجوع
إلى الوطن بقصد خدمته.
وعند
رجوعه، عرج على مصر، زار جامع الأزهر الشريف بالقاهرة ووقف على نظام
الدراسة والتّعليم فيه، ثم زار مفتي الدّيار المصريّة الشّيخ "محمّد بخيث
المطيعيّ" في داره بحلوان رفقة صديقه "إسماعيل جغر" المدرس بالأزهر، قدم له
كتاب من شيخه "الونيسي" فأحسن استقباله وكتب له إجازة في دفتر إجازاته بخط
يده.
نشاطه الإصلاحي :
· التربية والتّعليم :
أولى
الشّيخ ابن باديس التربية والتّعليم اهتماماً بالغاً ضمن برنامج الحركة
الإصلاحية التي قادها ووجهها، فالتربية عنده هي حجر الأساس في كل عمل
بنائي، لذلك أعطاها كل جهده ووقته، فبدأ نشاطه التّربوي والتّعليمي بالجامع
الأخضر أوائل جمادى الأول 1332 ﻫ / 1914 م، يدرّس الطلبة كامل النّهار وفق
برنامج مسطر لكل مستوى، ويلقي دروساً في تفسير القرآن، والحديث النبوي
الشريف من الموطأ بالإضافة إلى الوعظ والإرشاد لعامة الناس في المساء، ويخص
صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها بجملة من دروسه. ثم وسع نشاطه
بإلقاء دروس في مسجد سيدي قموش ومسجد سيدي عبد المؤمن، وقام في أيام الراحة
الأسبوعية وأيام الإجازة الصيفية بجولات لمختلف مناطق القطر.
وبعد
بضع سنوات من التّعليم المسجدي رأى جماعة من الفضلاء المتصلين به تأسيس
مكتب يكون أساساً للتّعليم الابتدائي العربي سنة 1926 م، انبثقت عنه سنة
1930 م مدرسة جمعيّة التربية والتّعليم الإسلامية. ودعا الجزائريّين إلى
تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر.
وحرصا
منه على رعاية الطلبة كوّن لجنة للعناية بهم ومراقبة سيرهم والإشراف على
الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، وأرسل المتفوقين والقادرين منهم على
مواصلة الدارسة العليا إلى جامع الزّيتونة والأزهر. وحثّ على تعليم
المرأة، وأولى تعليمها اهتماماً كبيراً، فألقى دروس وعظ خاصة للنساء
بالجامع الأخضر، وخص البنات بدروس في مدرسة جمعيّة التربية والتّعليم، وأقر
لهن مجانية التّعليم، وسعى لتمكينهن من مواصلة التّعليم الثانوي والعالي
في المشرق العربي.
وفي
سبيل إصلاح التّعليم وترشيد المناهج التّربوية في الجزائر دعا رجال
التربية والتّعليم إلى مؤتمر عقد عام 1937 م بنادي الترقّي لتبادل الآراء
فيما يهم التّعليم العربي الحر ومدارسه ومساجده ونظمه وأساليبه. كما شارك
في محاولة إصلاح التّعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى
لجنّة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس عام 1931 م، وتضمن اقتراحه
خلاصة آرائه في التربية والتّعليم.
· الصحافة :
رأى
الشّيخ ابن باديس أن حركة الإصلاح يجب ألا تقتصر على التربية والتّعليم،
فأعلن على دخول عالم الصحافة لدى تأسيسه جريدة "المنتقد" عام 1925 م، رغم
بدايات أولى له سبقتها في ممارسة العمل الصحفي بدأها بنشر مقالات في جريدة
"النّجاح" لأول عهدها أمضاها باسم مستعار هو (القسنطيني أو العبسي).
ولكن
"المنتقد" لم تعش طويلاً نظراً لجرأتها ولهجتها الحارة في ذلك العهد،
أوقفتها الإدارة الاِستعماريّة بعد ظهور ثمانية عشر عدداً، فخلفتها جريدة
"الشّهاب" التي ظلت تصدر أسبوعيّاً طوال أربع سنوات ثم حولها إلى مجلّة
شهرية منذ فبراير 1929 م. وحتى يوفر أقصى ما أمكنه من شروط نجاح واستمرارية
نشاطه الصحفي من بدايته، أسس "المطبعة الإسلامية الجزائرية" التي طبع فيها
جرائده وجرائد جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين الأربعة التي أشرف
عليها وهي : السّنّة المحمّديّة، والشّريعة المطهّرة، والصّراط السّويّ،
والبصائر.
· إسهاماته السياسية :
تتعدد
جوانب النضال الإصلاحي للشّيخ ابن باديس، ويُعد الجانب السّياسيّ في
شخصيته من أبرز هذه الجوانب، وقد أسهم بآرائه وأطروحاته في الفكر السّياسيّ
بالحديث عن قضايا الأمة الكبرى التي أعطاها كل حياته، ومن مواقفه السياسية
:
- استخلاص لأصول الولاية (الحكم) في الإسلام، نشرها عام 1931 م.
- دوره في إخماد نار الفتنة بين اليهود والمسلمين (فاجعة قسنطينة) صيف 1934 م.
- الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي والمساهمة فيه شهر جوان 1936 م.
- مشاركته ضمن وفد المؤتمر إلى باريس في شهر جويلية 1936 م.
- موقفه السّياسيّ من وعود حكومة فرنسا.
- محاورة لجنة البحث في البرلمان الفرنسي في شهر أبريل 1937 م.
- دعوة النواب إلى مقاطعة المجالس النيابية في شهر أوت عام 1937 م.
- نداءه لمقاطعة الاحتفالات القرنية لاحتلال مدينة قسنطينة خريف 1937 م.
- موقفه من قانون 8 مارس 1938 م.
- موقفه من إرسال برقية التضامن مع فرنسا ضد التهديد الألماني.
- تقديم العرائض والاحتجاجات.
- مقاومة سياسة الاندماج والتجنيس.
- الوقوف في وجه المحاولات الهادفة إلى زعزعة الوحدة الوطنية.
- اهتمامه بقضايا العالم الإسلامي.
- رأيه في الحرية والاستقلال.
ابن باديس وجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين :
فكر
الشّيخ ابن باديس، بدءا من سنة 1913 م - خلال إقامته بالمدينة المنورة -
في تأسيس جمعيّة، ومع رفيق دربه الشّيخ الإبراهيميّ وضع الأسس الأولى لها،
وبقصد تحضير التأسيس جمعتهما عدة لقاءات منذ عام 1920 م، وتمهيدا لبعثها
طلب من الشّيخ الإبراهيميّ عام 1924 م وضع القانون الأساسي لجمعيّة تجمع
شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم باسم "الإخاء العلمي" يكون مركزها العام
بمدينة "قسنطينة"، إلا أن حدوث حوادث عطلت المشروع.
ثم
توالت بعدها الجهود لتأسيس جمعيّة، ومن الإسهامات التي هيأت الجو الفكري
لها، دعوات الشّيخ ابن باديس العلماء في جريدته "الشّهاب" إلى تقديم
اقتراحات.. تلتها سنة 1928 م دعوته الطلاب العائدين من جامع الزيتونة
والمشرق العربي لندوة، سطروا خلالها برنامجا يهدف إلى النهوض بالجمعيّة
المزمع تأسيسها. وفي نفس الفترة برز "نادي الترقّي" كمركز ثقافي ذا تأثير
وملتقى للنخبة المفكرة في الجزائر، ومن منطلق رسالته الهادفة طلب الشّيخ
ابن باديس من مؤسسيه تكوين لجنة تأسيسية ترأسها "عمر إسماعيل"، تتولى
التحضير لتأسيس الجمعيّة.
وبعد
مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسيّ للجزائر (1830 – 1930 م)، واحتفال
الفرنسيين بذلك، تضافرت ظروف وعوامل كثيرة، ساهمت جميعها في إظهار "جمعيّة
العلماء المسلمين الجزائريّين" التي تأسست يوم الثلاثاء 05 من ماي 1931 م
في اجتماع بنادي الترقّي لاثنان وسبعون من علماء القطر الجزائري ومن شتى
الاتجاهات الدينية والمذهبية. وانتخب الشّيخ ابن باديس رئيساً لها والبشير
الإبراهيميّ نائبًا له.
وفاته وآثاره العلمية :
توفّي
الشّيخ ابن باديس مساء يوم الثلاثاء 9 ربيع الأول سنة 1359 ﻫ الموافق 16
أبريل 1940 م، بمسقط رأسه مدينة "قسنطينة" متأثرًا بمرضه، وقد شيّعت جنازته
عصر اليوم التالي لوفاته، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة الجامع
الأخضر دون غيرهم وسط جموع غفيرة زادة عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة
أنحاء القطر الجزائري.
تأثر
لوفاته جميع أفراد الشعب الجزائري، وقال الشّيخ العربي التبسي في تأبينه :
"لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها
فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس". ومن
بين من خلد هذا المصاب الجلل في إبانه شاعر الجزائر الكبير محمد العيد آل
خليفة بقصيدة مما جاء فيها :
يـا قــبــــر طبت وطـاب فـيـك عبيـــر هـل أنـت بالضيف العـزيز خبير ؟
هـذا (ابن باديس) الإمـام المرتضى (عبد الحميد) إلى حـمـاك يصـير
العـالم الفذ الذي لعلومـه صِيتٌ بأطـراف البـلاد كبير
بعث الجزائر بعد طـول سباتها فالشعب فيها بالحيـاة يصـير
إلى أن يقول :
نم هـادئا فالشعب بعـدك راشـد يختـط نهجـك في الهـدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى فالـوارثـون لما تركت كثير
لقد ترك الشّيخ ابن باديس آثارا كثيرا كانت حصيلة نضاله، ولله الحمد أن سخر له أحباباً جمعوا تلك الأعمال ونشروها هي:
1- رسالة جواب عن سوء مقال (نشرها سنة 1922 م).
2-
العواصم من القواصم (كتاب لابن العربي وقف على طبعه وتصحيحه في جزأين -
الجزء الأول 1345 هـ/1926 م - الجزء الثاني 1946 هـ/1927 م).
3-
تفسير ابن باديس (طبعه أحمد بوشمال سنة 1948 م، ثم طبعته وزارة الشؤون
الدينية بالجزائر سنة 1982 م في كتاب عنوانه "مجالس التذكير من كلام الحكيم
الخبير").
4- مجالس التذكير من حديث البشير النذير (طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر سنة 1983 م).
5-
العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية (طبعه تلميذه
محمّد الصالح رمضان سنة 1963 م، ثم أعيد طبعه مرتين عامي 1966 م و1990 م،
كما طبعه الشّيخ محمّد الحسن فضلاء سنة 1984 م).
6- رجال السلف ونساؤه (طبعه محمّد الصالح رمضان وتوفيق محمّد شاهين سنة 1966 م)
7-
مبادئ الأصول (حققه الدكتور عمار طالبي ونشره سنة 1988 م، كما درسه وحققه
الشّيخ أبي عبد المعز محمّد علي فركوس، وقدمه للطبع والنشر سنة 2001 م
بعنوان "الفتح المأمول في شرح مبادئ الأصول").
أما
باقي الآثار الأخرى فقد نشرت كلها في شكل مقالات ومحاضرات وخطب وقصائد
شعرية في صحف "النّجاح" و"المنتقد" و"الشّهاب" و"السّنّة المحمّدية"
و"الشّريعة المطهّرة" و"الصّراط السّويّ" و"البصائر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق